فصل: تفسير الآية رقم (49):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: محاسن التأويل



.تفسير الآية رقم (49):

القول في تأويل قوله تعالى: {أَلم تَرَ إِلَى الّذِينَ يُزَكّونَ أَنفُسَهُمْ بَلِ اللّهُ يُزَكّي مَن يَشَاء وَلاَ يُظْلمونَ فَتِيلاً} [49].
{أَلم تَرَ إِلَى الّذِينَ يُزَكّونَ أَنفُسَهُمْ} تعجيب من تمادحهم بالتزكية التي هي التطهير والتبرئة من القبيح فعلاً وقولاً، المنافية لما هم عليه من الطغيان والشرك الذي قصه تعالى عنهم قبل، فالمراد بهم اليهود، وقد حكى تعالى عنهم أنهم يقولون: {نَحْنُ أَبْنَاءُ اللّهِ وَأَحِبّاؤُه} [المائدة: من الآية 18]، وحكى عنهم أيضاً أنهم قالوا: {لَنْ تَمَسّنَا النّارُ إِلّا أَيّاماً مَعْدُودَةً} [البقرة: من الآية 80]، وأنهم قالوا: {لَنْ يَدْخُلَ الْجَنّةَ إِلّا مَنْ كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى} [البقرة: من الآية 111].
وروى ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: كان اليهود يقدمون صبيانهم يصلون بهم ويقربون قربانهم ويزعمون أنهم لا خطايا لهم ولا ذنوب، وكذبوا، قال الله: إني لا أطهر ذا ذنب بآخر لا ذنب له، وأنزل الله: {أَلم تَرَ إِلَى الّذِينَ يُزَكّونَ أَنفُسَهُمْ} أي: انظر إليهم فتعجب من ادعائهم أنهم أزكياء عند الله تعالى مع ما هم فيه من الكفر والإثم العظيم، أو من ادعائهم تكفير ذنوبهم مع استحالة أن يُغفَرَ للكافر شيء من كفره أو معاصيه.
وقوله تعالى: {بَلِ اللّهُ يُزَكّي مَن يَشَاء} تنبيه على أن تزكيته هي المعتد به دون تزكية غيره، فإنه العالم بما ينطوي على الإِنسَاْن من حَسَن وقبيح، وقد ذمهم وزكى المرتضين من عباده المؤمنين.
تنبيه:
قال الزمخشريّ: يدخل في الآية كل من زكى نفسه ووصفها بزكاء العمل وزيادة الطاعة والتقوى والزلفى عند الله، فإن قلت: أما قال رسول صَلّى اللهُ عليّه وسلّم: «والله! إني لأمين في السماء، أمين في الأرض؟».
قلت: إنما قال ذلك حين قال له المنافقون: اعدل في القسمة، إكذاباً لهم إذ وصفوه بخلاف ما وصفه به ربه، وشتان من شهد الله له بالتزكية ومن شهد لنفسه أو شهد له من لا يعلم.
وقد ورد في من التمادح والتزكية أحاديث كثيرة، منها:
عن أبي موسى الأشعري رَضِي اللّهُ عَنْهُ قال: سمع النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم رجلاً يثني على رجل ويطريه في المدح فقال: «أهلكتم أو قطعتم ظهر الرجل»، متفق عليه.
وعن أبي بكرة رَضِي اللّهُ عَنْهُ أن رجلاً ذكر عند النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم فأثنى عليه رجل خيراً فقال النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم: «ويحك! قطعت عنق صاحبك- يقوله مراراً- إن كان أحدكم مادحاً، لا محالة، فليقل: أحسب كذا وكذا إن كان يرى أنه كذلك، وحسيبه الله، ولا يزكي على الله أحداً»، متفق عليه.
وعن هَمَّام بن الحارث عن المقداد رَضِي اللّهُ عَنْهُ أن رجلاً عل يمدح عثمان رَضِي اللّهُ عَنْهُ، فعمد المقداد فجثا على ركبتيه، فجعل يجثوا في وجهه الحصاء، فقال له عثمان: ما شأنك؟ فقال: إن رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم قال: «إذا رأيتم المداحين فاحثوا في وجوههم التراب» رواه مسلم.
وقال الإمام أحمد: حدثنا معتمر عن أبيه عن نعيم بن أبي هند قال: قال عمر ابن الخطاب: من قال: أنا مؤمن فهو كافر، ومن قال: هو عالم، فهو جاهل، ومن قال: هو في الجنة فهو في النار.
ورواه ابن مردويه عن طريق موسى بن عبيدة عن طلحة بن عبيد الله بن كريز عن عمر أنه قال: إن أخوف ما أخاف عليكم إعجاب المرء برأيه، فمن قال إنه مؤمن فهو كافر، ومن قال هو عالم فهو جاهل، ومن قال هو في الجنة فهو في النار.
وروى الإمام أحمد عن مَعْبَد الجُهَنِي قال: كان معاوية قلما كان يحدث عن النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم، قال: كان قلّما يدع، يوم الجمعة، هؤلاء الكلمات أن يحدث بهن عن النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم، يقول: «من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين، وإن هذا المال حلو خضر فمن يأخذه حقه يبارك له فيه، وإياكم والتمادح فإنه الذبح».
وروى ابن ماجة عنه: «إياكم والتمادح فإنه الذبح».
وروى ابن جرير بسنده إلى عبد الله بن مسعود قال: إن الرجل ليغدو بدينه ثم يرجع وما معه منه شيء، يلقى الرجل ليس يملك له نفعاً ولا ضراً فيقول له: والله! إنك لذيت وذيت فلعله أن يرجع ولم يحل من حاجته بشيء، وقد أسخط الله عليه، ثم قرأ: {أَلم تَرَ إِلَى الّذِينَ يُزَكّونَ أَنفُسَهُمْ} الآية: {وَلاَ يُظْلمونَ فَتِيلاً} عطف على جملة قد حذفت، تعويلاً على دلالة الحال عليها وإيذاناً بأنها غنية عن الذكر، أي: يعاقبون بتلك الفعلة القبيحة ولا يظلمون في ذلك العقاب فتيلاً، أي: أدنى ظلم وأصغره، والفتيل الخيط الذي في شق النواة أو ما يفتل بين الأصابع من الوسخ، يضرب به المثل في القلة والحقارة، وقيل: التقدير، يُثاب المزكون ولا ينقص من ثوابهم شيء أصلاً، ولا يساعده مقام الوعيد، قاله أبو السعود.

.تفسير الآية رقم (50):

القول في تأويل قوله تعالى: {انظُرْ كَيفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْماً مّبِيناً} [50].
{انظُرْ كَيفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الكَذِبَ} أي: في تزكيتهم أنفسهم ودعواهم أنهم أبناء الله وأحباؤه، وقولهم: {لَنْ يَدْخُلَ الْجَنّةَ إِلّا مَنْ كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى} [البقرة: من الآية 111] وقولهم: {لَنْ تَمَسّنَا النّارُ إِلّا أَيّاماً مَعْدُودَةً} [البقرة: من الآية 80] واتكالهم على أعمال آياتهم الصالحة، وقد حكم الله أن أعمال الآباء لا تجزي عن الأبناء شيئاً، في قوله: {تِلْكَ أُمّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ} [البقرة: من الآية 134]، الآية.
قال العلامة أبو السعود: {كيف} نصب إما على التشبيه بالظرف أو بالحال، والعامل {يفترون} وبه تتعلق {على} أي: في حال أو على أي: حال يفترون عليه تعالى الكذب، والمراد بيان شناعة تلك الحال وكمال فظاعتها، والجملة في محل النصب بعد نزع الخافض والنظر متعلق بهما، وهو تعجيب إثر تعجيب، وتنبيه على أن ما ارتكبوه متضمن لأمرين عظيمين موجبين للتعجيب: ادعاؤهم الإنصاف بما هم متصفون بنقيضه، وافتراؤهم على الله سبحانه، فإن ادعائهم الزكاء عنده تعالى متضمن لادعائهم قرب الله وارتضاءهم إياهم، تعالى عن ذلك علواً كبيراً، ولكون هذا أشنع من الأول جرماً، وأعظم قبحاً لما فيه من نسبته سبحانه وتعالى إلى ما يستحيل عليه بالكلية من قول الكفر وارتضائه لعباده، ومغفرة كفر الكافر وسائر معاصيه- وجّه النظر إلى كيفيته تشديداً للتشنيع وتأكيداً للتعجيب، والتصريح بالكذب، مع أن الافتراء لا كون إلا كذباً، لمبالغة في تقبيح حالهم.
{وَكَفَى بِهِ} أي: بافترائهم هذا من حيث هو افتراء عليه تعالى مع قطع النظر عن مقارنته لتزكية أنفسهم وسائر آثارهم العظام.
{إِثْما مّبِينا} ظاهراً بيناً كونه إثماً، والمعنى: كفى ذلك وحده في كونهم أشد إثماً من كل كفار أثيم، أو في استحقاقهم لأشد العقوبات ثم حكى تعالى عن اليهود نوعاً آخر من المكر، وهو أنهم كانوا يفضلون عَبْدة الأصنام على المؤمنين، تعصباً وعناداً، بقوله سبحانه:

.تفسير الآية رقم (51):

القول في تأويل قوله تعالى: {أَلم تَرَ إِلَى الّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلّذِينَ كَفَرُواْ هَؤُلاء أَهْدَى مِنَ الّذِينَ آمَنُواْ سَبِيلاً} [51].
{أَلم تَرَ إِلَى الّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مّنَ الْكِتَابِ} أي: علماً بالتوراة الداعية إلى التوحيد وترجيح أهله، والكفر بالجبت والطاغوت، ووصفهم بما ذكر، من إيتاء النصيب، لما مر من منافاته لما صدر عنهم من القبائح.
{يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطّاغُوتِ} الجبت يطلق، لغة على الصنم والكاهن والساحر والسحر والذي لا خير فيه وكل ما عبد من دون الله تعالى، وكذا الطاغوت، فيطلق على الكاهن والشيطان وكل رأس ضلال والأصنام وكل ما عبد من دون الله وَمَرَدَة أهل الكتاب، كما في القاموس.
{وَيَقُولُونَ لِلّذِينَ كَفَرُواْ} أي: أشركوا بالله، وهم كفار مكة، أي: لأجلهم وفي حقهم: {هَؤُلاء} يعنونهم.
{أَهْدَى مِنَ الّذِينَ آمَنُواْ} بالله وحده: {سَبِيلاً} أي: أرشد طريقة، وإيرادهم بعنوان الإيمان ليس من قِبَل القائلين، بل من جهة الله تعالى، تعريفاً لهم بالوصف الجميل، وتخطئة لمن رجح عليهم المتصفين بأقبح القبائح.

.تفسير الآية رقم (52):

القول في تأويل قوله تعالى: {أُوْلَئِكَ الّذِينَ لَعَنَهُمُ اللّهُ وَمَن يَلْعَنِ اللّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيراً} [52].
{أُوْلَئِكَ الّذِينَ لَعَنَهُمُ اللّهُ} أي: أبعدهم عن رحمته وطردهم.
{وَمَن يَلْعَنِ اللّهُ} أي: يبعده عن رحمته.
{فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيراً} يدفع عنه العذاب دنيوياً كان أو أخروياً، لا بشفاعة ولا بغيرها.
قال الرازيّ: إنما استحقوا هذا اللعن الشديد لأن الذي ذكروه من تفضيل عَبْدة الأوثان على الذين آمنوا بمحمد صَلّى اللهُ عليّه وسلّم يجري مجرى المكابرة، فمن يعبد غير الله كيف يكون أفضل حالاً ممن لا يرضى بمعبود غير الله؟ ومن كان دينه الإقبال بالكلية على خدمة الخالق والإعراض عن الدنيا والإقبال على الآخرة كيف يكون أقل حالاً ممن كان بالضد في كل هذه الأحوال؟
وقد روى الإمام أحمد عن عِكْرِمَة عن ابن عباس قال: لما قدم كعب بن الأشرف مكة قالت قريش: ألا ترى هذا الصنبور المنبتر من قومه يزعم أنه خير منا ونحن أهل الحجيج وأهل السدانة وأهل السقاية، قال: أنتم خير، قال فنزلت فيهم: {إِنّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ} [الكوثر: 3]، ونزل: {أَلم تَرَ إِلَى الّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مّنَ الْكِتَابِ}- إلى-: {نَصِيراً}.
وقال الإمام ابن إسحاق رَضِي اللّهُ عَنْهُ: حدثني محمد بن أبي محمد عن عِكْرِمَة أو عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: كان الذين حزبوا الأحزاب من قريش وغطفان وبني قريظة، حُيي بن أخطب وسلام بن أبي الحقيق وأبو رافع والربيع بن أبي الحقيق وأبو عامر ووحوح بن عامر وهودة بن قيس.
فأما وحوح وأبو عامر وهودة فمن بني وائل وكان سائرهم من بني النضير، فلما قدموا على قريش قالوا: هؤلاء أحبار يهود وأهل العلم بالكتاب الأول، فاسألوهم أدينكم خير أم دين محمد؟ فسألوهم فقالوا: دينكم خير من دينه وأنتم أهدى منه وممن اتبعه، فأنزل الله عز وجل: {أم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب} إلى قوله عز وجل: {وَآتَيْنَاهُم مّلْكاً عَظِيماً} وهذا لعن لهم وإخبار بأنهم لا ناصر لهم في الدنيا ولا في الآخرة، لأنهم إنما ذهبوا يستنصرون بالمشركين، وإنما قالوا لهم ذلك ليستميلوهم إلى نصرتهم وقد أجابوهم وجاؤوا معهم يوم الأحزاب حتى حفر النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم وأصحابه حول المدينة الخندق فَكَفَى اللهُ شَرَّهُمْ.
{وَرَدّ اللّهُ الّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لم يَنَالُوا خَيْراً}: {وَكَفَى اللّهُ المؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللّهُ قَوِيّاً عَزِيزاً} [الأحزاب: من الآية 25].

.تفسير الآية رقم (53):

القول في تأويل قوله تعالى: {أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مّنَ الملْكِ فَإِذاً لاّ يُؤْتُونَ النّاسَ نَقِيراً} [53].
{أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مّنَ الملْكِ فَإِذاً لاّ يُؤْتُونَ النّاسَ نَقِيراً} لما ذم سبحانه اليهود بتزكيتهم أنفسهم وتفضيل المشركين على الموحدين، شرع في تفصيل بعض آخر من مثالبهم، وهو وصفهم بالبخل والحسد اللذين هما شر خصلتين.
و{أم} منقطعة، والهمزة لإنكار أن يكون لهم نصيب من الملك، والفاء للسببية الجزائية لشرط محذوف، أي: لو كان لهم نصيب من الملك، والفاء للسببية الجزائرية لشرط محذوف، أي: لو كان لهم نصيب من الملك فإذاً لا يؤتون أحداً مقدار نقير لفرط بخلهم.
والنقير النقرة في ظهر النواة وهو مثل في القلة والحقارة، كالفتيل والقطمير، والمراد بالملك إما ملك أهل الدنيا وإما ملك الله، كقوله تعالى: {قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْأِنْفَاقِ} [الإسراء: من الآية 100].
وقال أبو السعود: وهذا هو البيان الكاشف عن كنه حالهم، وإذا كان شأنهم كذلك وهم ملوك فما ظنك بهم وهم أذلاء متنافرون؟ ويجوز أن لا تكون الهمزة لإنكار الوقوع بل لإنكار الواقع والتوبيخ عليه، أي: لعده منكراً غير لائق بالوقوع على أن الفاء عطف والإنكار متوجه إلى مجموع المعطوفين على معنى: ألهم نصيب وافر من الملك حيث كانوا أصحاب أموال وبساتين وقصور مشيدة كالملوك فلا يؤتون الناس مع ذلك نقيراً؟ كما تقول لغني لا يراعي أباه: ألك هذا القدر من المال فلا تنفق على أبيك شيئاً؟ وفائدة {إذن} تأكيد الإنكار والتوبيخ، حيث يجعلون ثبوت النصيب سبباً للمنع مع كونه سبباً للإعطاء، وهي ملغاة عن العمل، كأنه قيل: فلا يؤتون الناس إذن: وقرئ: {فإذن لا يؤتوا} بالنصب على إعمالها.

.تفسير الآية رقم (54):

القول في تأويل قوله تعالى: {أَمْ يَحْسُدُونَ النّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَآ آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مّلْكاً عَظِيماً} [54].
{أَمْ يَحْسُدُونَ النّاسَ} منقطعة أيضاً مفيدة للانتقال من توبيخهم بما سبق، أعني البخل، إلى توبيخهم بالحسد، وهما شر الرذائل كما قدمنا، وكان بينهما تلازماً وتجاذباً، واللام في {الناس} للعهد والإشارة إلى رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم والمؤمنين.
وروى الطبراني بسنده عن ابن عباس في هذه الآية قال: نحن الناس دون الناس، والهمزة لإنكار الواقع واستقباحه.
قال الرازيّ: وإنما حسن ذكر الناس لإرادة طائفة معينة من الناس، لأن المقصود من الخلق إنما هو القيام بالعبودية كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنّ وَالْإِنسَ إِلّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] فما كان القائمون بهذا المقصود ليس إلا محمداً صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ومن كان على دينه- كان هو وأصحابه كأنهم كل الناس، فلهذا حسن إطلاق لفظ {الناس} وإرادتهم على التعيين: {عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ} وهو النبوة والكتاب والرشد وازدياد العز والنصر يوماً فيوماً، وقوله تعالى: {فَقَدْ آتَيْنَآ} تعليل للإنكار والاستقباح وإلزام لهم بما هو مسلم عندهم، وحسم لمادة حسدهم واستبعادهم، المبنيين على توهم عدم استحقاق المحسود لما أوتي من الفضل ببيان استحقاقه له بطريق الوراثة كابراً عن كابر، وإجراء الكلام على سنن الكبرياء بطريق الالتفات لإظهار كمال العناية بالأمر، والمعنى: أن حسدهم المذكور في غاية القبح والبطلان، فإنا قد آتينا من قبل هذا: {آلَ إِبْرَاهِيمَ} الذين هم أسلاف محمد صَلّى اللهُ عليّه وسلّم وأبناء أعمامه: {الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} النبوة: {وَآتَيْنَاهُم مّلْكاً عَظِيماً} لا يقادر قدره، فكيف يستبعدون نبوته ويحسدونه على إيتائها؟، أفاده أبو السعود.
قال الرازيّ: إن الحسد لا يحصل إلا عند الفضيلة، فكلما كانت فضيلة الإِنسَاْن أتم وأكمل كان حسد الحاسدين عليه أعظم، ومعلوم أن النبوة أعظم المناصب في الدين، ثم إنه تعالى أعطاها لمحمد صَلّى اللهُ عليّه وسلّم وضم إليها أنه جعله كل يوم أقوى دولة وأعظم شوكة وأكثر أنصاراً وأعواناً، فلما كانت هذه النعم سبباً لحسد هؤلاء، بين تعالى ما يدفع ذلك فقال: {فَقَدْ آتَيْنَآ آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مّلْكاً عَظِيماً} والمعنى: أنه حصل في أولاد إبراهيم جماعة كثيرون جمعوا بين النبوة والملك وأنتم لا تتعجبون من ذلك ولا تحسدوهم، فلم تتعجبون من حال محمد صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ولم تحسدونه؟